كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بعد أن ذكر اللّه حكم من قتل المسلم خطأ، ذكر هنا حكم من قتله عامدا، واقتصر على ذكر عقوبته في الأخرى، لأنّه ذكر عقوبته في الدنيا وهي القصاص في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} [البقرة: 178].
وقد استدلّ المعتزلة بهذه الآية على القطع بعذاب الفسّاق، وخلودهم في النار، إن لم يتوبوا، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة شتّى. منها أنّ هذه الآية نزلت في كافر قتل مسلما، ويرد عليه أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضا قد ثبت في الأصول أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدلّ على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وبذلك علمنا من قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} [المائدة: 38] إن السرقة علة القطع.
ومنها أنّ هذا وعيد بأنه سيفعل ذلك في المستقبل، والخلف في الوعيد كرم، وهذا مردود، لأنّ الوعيد قسم من الخبر، فإذا جوّز على اللّه الخلف فيه، فقد جوّز عليه الكذب، وهو باطل.
ومنها أن هذه الآية دلّت على أن جزاء القاتل هو ما ذكر، وليس فيها ما يدلّ على أنه سيوصل هذا الجزاء إليه، وهذا مثل ما يقول السيد لعبده، جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا، ولكن لا أفعله. وهذا ضعيف أيضا، لأنّ اللّه ذكر في هذه الآية أنّ جزاءه ما ذكر، وذكر في آيات أخرى أنه سيوصل جزاء عاملي السوء إليهم، قال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 8].
واختار الرازي في الجواب أنّ هذه الآية قد خصّصت في موضعين:
أحدهما: القتل العمد، إذا لم يكن عدوانا، كقتل القصاص.
والثاني: القتل الذي تاب عنه القتل وإذا دخلها التخصيص في هاتين المسألتين فنحن نخصّص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48].
وقد ذهب ابن عباس إلى أنّ المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا تقبل له توبة.
أخرج ابن جرير عن سالم قال: كنت جالسا مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلا قتل مؤمنا متعمدا أين منزله؟
قال: جهنم خالدا فيها، وغضب اللّه عليه، ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما.
قال: أفرأيت إن هو تاب، وآمن، وعمل صالحا، ثم اهتدى.
قال: وأنّى له الهدى ثكلته أمّه والذي نفسي بيده لسمعته يقول يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «يجيء يوم القيامة معلّقا رأسه بإحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذا صاحبه بيده الأخرى تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن، يقول: يا ربّ سل عبدك هذا علام قتلني».
فما جاء نبيّ بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم.
وقال جمهور العلماء: إنّ توبة القاتل تقبل، ويدل له أن الكفر أعظم من هذا القتل، والتوبة عن الكفر تقبل، فالتوبة عن القتل أولى بالقبول.
وأيضا آيات الفرقان تدل على قبول توبته، وهي قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا} [الفرقان: 68- 70].
وأيا ما كان الأمر، فالآية تعدّ قتل المؤمن من الكبائر، وتهدّد القاتل بأنواع من التهديد والعقاب.
وقد ورد في الأحاديث من التغليظ في قتل المسلم ما هو قريب مما في الآية:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لزوال الدنيا أهون على اللّه من قتل امرئ مسلم».
وقال أيضا: «لو أنّ رجلا قتل بالمشرق، وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه».
وقال أيضا: «إن هذا الإنسان بنيان اللّه، ملعون من هدم بنيانه».
وقال أيضا: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه».
فعلى من ينشد الحيطة لنفسه في آخرته، ألا يقتل مسلما، ولا يعين على قتل مسلم بشهادة باطلة ونحوها.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} ضَرَبْتُمْ له معان منها السفر، وكأنه سمي به، لأنّ المسافر يضرب دابّته بعصاه ليصرفها كما يريد، ثم سمي به كلّ مسافر، أو لأنه يضرب برجليه الأرض في سيره.
{فَتَبَيَّنُوا} وقرئ {فتثبتوا} وهما من التفعل بمعنى الاستفعال، أي اطلبوا بيان الأمر وثباته، ولا تتعجلوا فيه من غير روية.
{السَّلامَ} وقرئ {السلم} وهما الاستسلام، وقيل الإسلام، وقيل التسليم أي تحية أهل السلام.
معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله إذا سرتم سيرا للّه تعالى في جهاد الكفار، ورأيتم من تشكّون أهو سلم لكم أم حرب، فاطلبوا بيان أمره، ولا تعجّلوا بقتله، ولا تقولوا لمن استسلم لكم لست مؤمنا، أو لمن أظهر إليكم الإسلام لست مؤمنا، تبتغون متاع الحياة الدنيا، فإنّ عند اللّه مغانم كثيرة من رزقه ونعمته، فالتمسوها بطاعته، فهي خير لكم.
{كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي كهذا الذي كان مستخفيا بالإسلام من قومه- ولما وجدكم أظهر لكم دينه- كنتم من قبل مستخفين بدينكم من كفار قريش، فمنّ اللّه عليكم بإعزاز دينه، وتقوية شوكة الإسلام، فأظهرتم دينكم، فتبينوا أمر من أشكل عليكم أمره {إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ومنه تعجيلكم بقتل من لم يتبيّن لكم شأنه ابتغاء عرض الدنيا الزائل وحطامها الفاني.
وقال الزمخشري: {كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بالاستقامة، والاشتهار بالإيمان، وإن صرتم أعلاما فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكانة، ولا تقولوا: إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلّما إلى استباحة دمه وماله، وقد حرمهما اللّه.
سبب نزول هذه الآية: قد اختلف فيه، ونحن نقتصر هنا على رواية واحدة: قيل: إنّ مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم، ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان عليها غالب بن فضالة الليثي، فهربوا، وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، وصعد، فلما تلاحقوا وكبّروا، كبر ونزل، وقال: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، فأخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فوجد وجدا شديدا، وقال: «قتلتموه إرادة ما معه» ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول اللّه استغفر لي، فقال: «فكيف بلا إله إلا اللّه» قال أسامة: فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي، وقال: أعتق رقبة.
ويؤخذ مما تقدم أنّ الكافر إذا قال: لا إله إلا اللّه، حرم قتله، لأنّه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله.
وقد قال الفقهاء: إذا قتله في هذه الحالة قتل به، وإنما لم يقتل أسامة لأنّه كان في صدر الإسلام، وتأوّل أنه قالها متعوّذا، وأنّ العاصم قولها مطمئنا.
وقد ورد الحديث الصحيح مبينا أنّ قول لا إله إلا اللّه عاصم كيفما كان، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوا لا إله إلا اللّه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللّه».
قال اللّه تعالى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}.
الضرب في الأرض: السير فيها- قال اللّه تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} [المزمل: 20].
وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94].
القصر: من الشيء الحدّ منه وجعله أنقص مما كان، وهو بهذا المعنى في الصلاة يحتمل النقص من عددها، ويحتمل النقص من صفتها وهيئتها، فالأول أن تصير الرباعية ثنتين، والثاني التخفيف في هيئتها كأن تكون ذات ركوع وسجود، يمتنع المشيء فيها، فتصير ذات إيماء يباح الانتقال فيها، وكأن يصلي المأموم خلف الإمام الصلاة كاملة فيقتصر على جزء منها مع الإمام، ثم ينتظر حتى يجيء مأموم آخر فيصلي مع الإمام ما بقي من صلاة الإمام ثم ينصرف، ويتم كل من المأمومين صلاته منفردا، كلّ ذلك حطّ من الصلاة، ونقص لها، وتخفيف على فاعلها.
وقد اختلف العلماء في المراد بالقصر هنا، أهو القصر في عدد ركعات الصلاة أم هو القصر من هيئتها، والقائلون بأنّ القصر نقص عدد الركعات اختلفوا في المراد من الصلاة أهي صلاة المسافر أم هي الصلاة في حال الخوف من العدو، فعلى الأول يكون القصر للصلاة في السفر بالنظر لما كانت عليه في الحضر.
وذهب ابن عباس وجابر بن عبد اللّه إلى الثاني، قال ابن عباس: فرض اللّه صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم، وهذا القول ليس بظاهر، لأنّ القرآن صريح في أن كيفية صلاة الخوف أن يقسم القوم أنفسهم طائفتين، يصلّي الإمام بطائفة منهما شيئا من الصلاة، ثم تأتي طائفة أخرى لم يصلّوا فيصلون مع الإمام، ونحن متفقون على أنّ المأموم عليه أن يؤدي مثل ما يؤدي الإمام، فما معنى قولهم: إن صلاة الخوف ركعة؟ إن أرادوا أنها ركعة بجماعة مع الإمام بالنظر لكل من الطائفتين فهو مسلم، ولا يثبت لهم ما قالوا من أنّ صلاة الخوف ركعة، وإن قالوا: إن كل طائفة ليس عليها إلا الذي صلت مع الإمام، فهو مخالف لما حكينا من الاتفاق على أن المأموم عليه أن يفعل مثل ما فعل الإمام، وقد دلّت كلّ الأخبار التي رويت في صلاة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لصلاة الخوف أنها ركعتان، يصلّي بكل طائفة ركعة، وعلى هذا يجب أن يحمل قول ابن عباس وجابر رضي اللّه تعالى عنهما أن صلاة الخوف ركعة، أنها ركعة لكل طائفة مع الإمام، وتقضي كل منهما ركعة دون الاقتصار على ركعة واحدة.
وقد استدلّ القائلون بأنّ القصر قصر عدد الركعات بما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف تقصر وقد أمّنا، وقد قال اللّه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدّق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته».
وهذا يدلّ على أنّ المراد بالقصر في الآية القصر في عدد الركعات، لأنّ السائل فهم أنّ ذلك لا يكون إلا في الخوف، وقد فعل في الأمن فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «هو صدقة».
فدلّ على أنّ القصر الذي في الآية من جنس القصر الذي يكون في الأمن، وذلك نقص في الركعات دون الصفة، وأيضا فإنّ القصر أن تقتصر من الشيء على بعضه، والقصر في الصفة تغيير، لا إتيان بالبعض، لأنه جعل الإيماء بدل الركوع والسجود مثلا. وأيضا: فإنّ (من) في قوله: {مِنَ الصَّلاةِ} للتبعيض، وذلك في الاقتصار على بعض الركعات أظهر.
وأما دليل الذين قالوا: إنّ المراد بقصر الصلاة في الآية قصر الصفة والهيئة دون نقصان أعداد الركعات فهو أنّ الآية في صلاة السفر. أليس اللّه يقول: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفطر والأضحى ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام» فقد أخبر أنّ صلاة السفر سواء أكانت صلاة أمن أم خوف تمام غير قصر.
فإذا معنى القصر في الآية قصر الصفة لا قصر عدد الركعات، وهم يحملون قول عمر: «عجبت مما عجبت منه» على أنه لعله كان قد ظن في بادئ الأمر أنّ القصر في صلاة الخوف قصر عدد الركعات، فلما سمع من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر» علم أن القصر في الآية إنما هو في الصفة.